الأحد، 22 يوليو 2012

مشاهد من مدينة


(1)
المشهد الأول :  كعب امرأة …
كانت أشعة الشمس الرومانية تخترق حواف الأسطورة بوقعٍ رتيبٍ، و تنعكس في عيني الراحل كخربشات، إذا جمعت ستكون لمن فطن المعرفةَ صورةَ امرأةٍ إغريقيةَ الجمالِ، أذابت مفتاح النهر الرخامي في كحلها الرصين، في آخر مرة كانت قد رأت فيها شجرة السرو، كانت ترتدي قبعةً مغطاةً بالفرو الذهبي و تتبخترُ على الجسر بكبرياء فكُسرَ كعبُ حذاءها الجلدي، فتركت جمالها لقاموس الراحلين و لم تعد لمدينة العراقيل مرة أخرى.

(2)
المشهد الثاني : الصبيُّ و القروش الثلاثة ...
كان طفلًا صغيرًا، يمتلك أنصافَ الأسرارِ، بريئًا جدًا، جلس القرفصاء على سجادةِ صالةِ البيتِ الهرمة، و عندما عاد والده للمنزل؛ قفزَ على أحضانهِ كأرنبِ بلاد العجائب، أخبره بأنه يود ثلاثة قروشٍ؛ لشراءِ لعبةٍ أحبها لمحها عند أحد الباعةِ و هو عائدُ من مدرسته، فأجاب والده بأنه نشر القروشَ على السطحِ و طلب منه الانتظار حتى تجف ليأخذها، لكن بعد بضعةِ أيامٍ تركوا المنزلَ بحجة الوالد، التي تقول:" التضحية يا بني"، و عند انتقالهم للبيتِ الجديدِ القديمِ، كان الصبي غاضبًا جدًا من والده، ليس لأنه أحضرهم إلى بيتٍ قبيحٍ،و لا لأنه منعه من إحضارِ جميعِ ملابسهِ، و لا لأنه أعطى الكثير من أثاثِ منزلهم السابق لرجل سيء المنظر مقابل القليل من المال، بل لأنه ترك القروش الثلاثة معلقةً على سطح المنزل و لم يعطه إياهم.

(3)
المشهد الثالث: حُلِي العروس
كانت فرحة جدًا في سهرتها التي قبل العرس، تراقصت الفتيات الحسناوات من حولها، زرعن في قلبها شمسَ البيتِ الجديدِ الذي كانت ستعانقه غدًا، كن يتمايلن وجهة الناي على أغنية الغياب، أخذنها لتشاركهم اللوحة أحيانًا، و لكنها حرصت ألا تتعب نفسها.
في الصباح كانت تضع طوقًا من الياسمين على شعرها المنسدل، كانت جميلة جدًا بالأبيض، كانت تشبه شيئًا ما، ربما ندى...، و ضعت قليلًا من المساحيق، لبست حذاءها، لكنها اكتشفت بعد ذلك أن أحدهم سرق حُلِيها!
لم تنزعج لأنها أمضت ليلة زفافها بلا ذهب، بل لأن في الليلة نفسها كان هناك فتاة أخرى على الضفة الغربية من المدينة، تزف إلى عريسها مرتدية الحلي المسروقة.


(4)
المشهد الرابع :
قفصُ حمامٍ ...
لخصَ الذكرياتِ بوردٍ أبيضِ اللونِ، و لكنه لم يتذكر الغناءَ أبداً!، خوفاً من انقلابِ الأحداثِ إلى جمهورٍ لا يعرفُ الرحمة، فترك الأرواحَ تمارس الصمت مع السماءِ كما تشاء، فالكمنجةُ  تداعبُ أناملَ الريحِ دوماً قبيل العصرِ بقليل، و العصر لا يفك أسر الحمام مرتين .


(5)
المشهد الخامس :
هي و هو ..
انعكست الرصافةُ  بداخلها كثيرًا، لكنها كانت على وشك الاختناق، نفضت كل الأرائك، و ساعدت العنكبوتَ على بناء بيتٍ له في زوايا بيتها المظلم، و من ثم قامت بتحضيرِ بطاقاتٍ مزينةٍ لدعوة قبيلة العناكب لافتتاح المنزل الجديد. 
أما هو عاد ليكلم الجدار ذاته، كم من الأفواه يحتاج من عالم الثرثرة ليتكلم كلَّ هذا الكلام!
أصيبت اللغة بمرض الغيظ، و انتظر هو القدر ليكتم أنفاس ريحانه، و ليطرق جرس بيت العناكب الجديد .

(6)
المشهد السادس: رسالةٌ من مراهقةٍ إلى المدينة
يا  مدينة، ليس أصلي منكِ، أشعر كأنني رضيعٌ لم يذق حليب أمه، فضله جوعهُ إليك،
 إلى حليبكِ، إلى حبكِ، فيا لتعاسته كم سيشقى!
حبُك يعني أن يكون هناك فتاةٌ شرقيةٌ الجمالِ و النكهةِ لها غمازاتٌ في كلتا وجنتيها و صفاتها كتلك التي تُذكر في الأغاني اللبنانية، وليدة توأمٍ يدعى الوجع، و حبك يعني أن يحضرَ الجائعُ مجلسًا كل من فيه متأففون من الشبع.
أأنا منكِ أم أنتِ مني؟،  أمسيت أتمنى الموتَ كل يومٍ من السماءِ، و أطلبُ من عمريَ أن يختصر في ساعاته؛ كي لا أحيا يومًا آخر و أخدش نفسي بحبكِ أكثر.
القلب أضحى لا يخاف، أصبح يعلن حبَك عليّ كل حين، أنتِ لا تحيين بموتنا، بل بحياتنا تحيين.

(7)
المشهد السابع:  أنا و المدينة و الصوف ...
أخبرتها بأنني أمضيت طيلةَ عمري و أنا أغزلُ لها الصوف، و لكنها صفعتني بإجابةٍ، قالت لي فيها، بأنها لم تشعر بالدفءِ طيلةَ حياتها،و لكن عند الرحيل كان هناك غيمةٌ من صوفٍ تدفئُ بردَ الرحيلِ من المدينة .
(8)
المشهد الثامن: رئيس البلاد
كان رئيسُ البلادِ جالسًا يرى كل المشاهدِ السابقةِ مع بعضها البعض، يرى تفاصيلَ مدينةٍ في مشهدٍ مثير للبكاء، يراها دون أن يتنحى عن منصبه، أو يغيرَ الدستور، أو يسن قانونًا جديدًا يحكم بإعدامِ كل من يولد بحبِ تلك المدينة، أو يفرض منعَ التجوالِ، أو يعلن الحدادَ ثلاثةَ أيام!
بل أنه وقف فقط احترامًا لشهداءِ المدينة، و الأحياء منها، و محبيها، و لكل روحٍ مرت بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق