الأربعاء، 2 فبراير 2011

ابْنَةُ الشَحَاذِ




على خشبةِ المسرحْ

كانَت الستائرُ تُسدَلُ بِبطءٍ شَديدْ

و أَنا وَراءَها عازِفةُ البيانو المشهورة

كانت سيمفونيةُ " كلاسيكيةُ الألحانْ "

هي ما عَزْفتُهُ في حفلةِ رأسِ السنةِ تلك ...

خرَجتُ منَ المسرح

هنا كانت الأضواءُ تلتقطُ لي صُوراً

باقاتُ الورودِ تُقدَّم لي كشلالٍ من العذوبة

و طلباتُ توقيعٍ غَمَرتني

راضيتُ جُمْهوري بابتساماتٍ و تنفيذِ طلباتٍ و اسْتنشاقِ رحيقِ الأزهارِ و تَقبُّل الهدايا

ثم نظرتُ إلى الساعةِ وَجَدتها ما زالت السابعة

فقررت المشي بما أن ميعادَ سهرةِ الأصدقاءِ الساعةَ العاشرة

مشيتُ مسافةً قَصيرة

حتى رأيتُ شحاذاً يجلسُ على رصيفِ الطريق

ابتسمتُ في وجهه و أعطيته قليلاً من المالِ و وردةً

لإدخالِ فرحةِ السنةِ الجديدة على روحِهِ المعطرةِ بصعوبةِ الحياة

...

صفعني بنظرةٍ مَهدت لي التفرس بدقةٍ في ملامحه المرسومة كبرودة الجو ....

مشيت ببطءٍ شديد

و نظرت إلى أضواءِ المدينة

وإلى ثلوجِها

و إلى أروقتِها المنحوتة

و إلى زواياها المقطوفة

وإلى تراكيبِ احتفالِها

و ادخارِ تاريخها

و ذاكرةِ خيطانها

حتى لاحظت بأن الشحاذَ ما زال يمشي ورائي

فتهت في رعشتي ، و تمتمت صلواتي خوفاً

يا تُرى ماذا يريد ؟

لماذا يمشي ورائي ؟

حينها حوافُ جسدي ملأتها قشعريرة ملعونة

قررتُ الجريَ

لكنه لحقني يجري

...

تعمقتُ في جنوني لعلي أجدُ شاطئاً أو جزيرةً عتيقةً أُرْسي قَواعدي عليها ...

تَعَثرتْ قَدماي

وتمزقَ الحذاءُ فخَلَعتْهُ وَهَرَبَت

واختبأتُ في الزاوية

دُهِشْتُ حينما رأيتُ وقتها الشحاذَ بفرحةِ العيدِ يأخذُ حذائي ويمشي .. به وكأنه حلوى العيد

من فضولي مشيتُ وراءه

حتى وصلَ إلى كوخٍ قديم زينتهُ ضحكاتُه الحزينة الذي من المرض والجوع قد أكل نفسه

تابعت المراقبة

ولحقتهُ إلى السلَم

قبلَ إكمالِ الجاسوسيةِ كان عليّ تقويمُ قدماي مِن رجفةٍ لا أعلمُ إن كانت من البردِ أو من صاعقةِ الإنسانية

دخل إلى شقتِهِ..

" استخدمتُ شقهً مُبالغةً "

على أيةِ حالٍ ، تسللتُ وراءه من غيرِ درايةٍ منه

حينها وضعَ الحذاءَ وجَلسَ أمامَ موقدِ الحطبِ

شعرتُ بالطمأنينةِ لأنني تأكدتُّ من أنه ضعيفٌ

وحينها سألتُه منفجرةً بالفضولِ ...

" من أنت ؟.ولماذا عبثتَ معي ؟ "

ولماذا سرقتَ حذائي ؟

فأجاباني كقبيلةِ ديدانِ القزِ المكومةِ في عُشبةٍ :

" أنتَ عليكَ أن تعزفي البيانو وأن تفرحي بالسنةِ الجديدةِ وأنا علي أن أُقهرَ بسبب ضياعِ حذاءِ ابنتي ويا ليت القصة كلها بالحذاء ..

فأنت تعطرين الليل بموسيقاك وشعرك وعيناك وعزفك وحبك للبشر .. "

صرخت في وجهه برقة طاغية:

" أجُننتَ يا هذا ؟ "

لَمْ يبالي بكلمتي تلك وتابع حديثَه :

" أنت تشبهين ابنتي كثيراً التي تعاني من مرضٍ مزمن لكنني على ثقةٍ بأنها ستُعافى .

كانت مثلك عازفةَ بيانو وفي مثلِ هذهِ الليلةِ كانت تعزفُ في حفلةِ رأسِ السنةِ كنت انتظرُها لتحضيرِ المائدة لِنلتقطَ بالعامِ الجديد معاً

لكنها عادَتْ مريضةً رَجِعَت بكلِ ما ذَهبتْ بِهِ عدا حذائها وها هي بالغرفةِ منذُ خمسِ سنواتٍ ومنذ تِلكَ المدة وأنا أحاول كل ليلة كهذه أن أخلعك حذائك حتى أعطيه لابنتي كي تعافى "

سألته فورا : " ما هذا المرض؟وهل حاولتَ علاجه ؟ "

قال لي : " أنه مرضٌ مزمنٌ لا اعرفُ ما هو، أحضرتُ لها العديدَ من الأطباءِ لكنهم قالوا لي ، تعالج أنتَ حينها ستُعَالجُ هيَ

لكن جاري الذي توفيّ السنةَ الماضيةَ أعطيته كلَّ مالي حتى يُخبرني على سرٍ قالَ لي يجعلُها على قيدِ الحياةِ فوَضَعَ عليها مادةً ما "

حينها صَمَتْ ، فذهبتُ لكي أرى ابنتَه هذهِ

وهُنا شَعرتُ بِمَدى جُنونِ قَلبِ الشحاذِ الرقيقِ ذي الجدران المرهفةِ والأغطيةِ المُرَقعةِ والسذاجةِ المتوهجة ،

إنه حتماً يعيشُ في مسرحيةٍ ما

يظن أنّ ابنتَه مريضة و هي في الحقيقة ميتة محنطة!

تشبهُ الموناليزا في عنايةِ وصفِها ولوحاتِ بيكاسو في جودتها

وراقصاتُ الباليه في رشاقتها

تراجعت وأخذت من الشحاذ الحذاء، و ألبستها إياه

تحسست قدماها وأنا البسها كانتا كلوحِ زجاجٍ مزخرفْ

جلس أباها وقبلها وهمس في أذنها : بقي أن ترجعي لي

قلت له : لا تزعجها ! هيا لنخرجَ من الغرفة .

دعاني لكي اجلسَ لنحتفل بالعام الجديد معاً

فقَبِلت .

تحدثنا كثيراً

اقتبسُ أهم نقطةٍ من الحديث:

الشحاذ: زوريني .

أنا: سأزورك كل رأس سنة ، وأنصحك بأن تتعالج أو افعل ما تشاء والآن إلى اللقاء.

وها أنا الآن عائدة إلى منزلي وكل ما أفكر فيه هو " أن الحياة لم تبقي لنا شيئاً سوى أشعار البؤس الممزقة ..

لكنها مصرة على إن تبقي عنوانها علو جمال القدر" .